كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونقول لأصحاب الهوى في المذاهب والعقائد المخالفة لمنهج الله جميعا: لماذا لا تقيسون الأمور المادية على الأمور المعنوية؟ لماذا إذا سطعت شمس الله تطفئون مصابيحكم، ولا يحاول أحد أن يوقد مصباحا ليهديه في نور الشمس؟. إذن. فما دام سبحانه وتعالى قد أنزل نور الهدى منه فلابد أن نطفيء جميعا مصابيح الأفكار القائمة على الهوى، ونأخذ النور كله من منهج الله القويم والصالح لكل زمان ومكان، كما نأخذ النور في النهار من شمس الله.
وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى قد أعطانا التجربة الحسية التي لا يختلف فيها اثنان، إلا أننا رفضنا أن نطبق هذا على منهج الله؛ وهو النور الذي أهداه لنا سبحانه وتعالى ليبين لنا الطريق، وأبى بعضنا إلا أن يأخذ من ظلمات العقل البشري المحدود ما يعطيه طريقًا معوجًا في الحياة، فامتلأت الدنيا بالشقاء والفساد، ونسينا أن السبب في ذلك أننا تركنا نور منهج الله عز وجل الذي يعطينا الحياة الآمنة الطيبة، ووضعنا لأنفسنا مناهج سببت التعاسة والفساد في الكون.
ويقرب لنا الحق سبحانه وتعالى الأمر في مثل مادي عن معنى نور الله فيقول سبحانه وتعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35].
أي: أن نوره سبحانه وتعالى يملأ السموات والأرض، وأنه يحيط بكل جوانب الحياة على الأرض فلا يترك جانبا منها مظلما، وقال جل جلاله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35].
والمشكاة هي الطاقة المسدودة بالحائط، وهي عبارة عن مكعب مفرغ في البناء داخل حجرة وكان أهل الريف يضعون فيها المصابيح لتنير، واستبدله أهل الريف والبادية حاليا برف صغير يوضع عليه المصباح، ودائرة صغيرة يخرج منها النور، ولأن ضوء المصباح مركز في هذه الفتحة، فهي تمتلئ بالنور الذي بدوره يشع في الحجرة. وحيز المشكاة بالنسبة للحجرة التي توجد فيها قليل وصغير، والنور الذي يخرج منها، هو نور مركز يملأ الدائرة التي يخرج منها فلا يوجد فيها ملليمتر واحد مظلم، بل كلها نور، وإلا ما استطاع ضوءها أن ينير الحجرة. لأن هذا النور قبل أن يضيء الحجرة؛ لابد أن يكون مركزا بأعلى درجة من التركيز في الدائرة التي يخرج منها.
إذن فنور الله سبحانه وتعالى في السموات والأرض نور شامل عام لا يدع مكانًا مظلمًا. ولا مكانًا يختفي فيه شيء بسبب الظلام، تماما كمثل تلك الدائرة الصغيرة التي يشع منها نور المصباح فلا تجد فيها ملليمترا واحدا من الظلام، وقد سمي ما يعطي النور مصباحا؛ لأنه يعطينا بشائر الصبح. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35].
ونحن إذا أردنا أن نكثف النور فإننا نحيطه بالزجاج، ليحجب عنه الهواء الذي قد يؤثر على النور ويمنع تركيزه، والزجاجة التي تحيط بالمشكاة عاكسة للنور، وهذا كله يعطينا معنى للتكثيف والتركيز داخل المشكاة. ثم ينتقل المثل من بعد ذلك إلى الحجرة، فيقول الحق: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35].
أي: أن الزجاجة ليست عادية، ولكنها مضيئة بنفسها لتزيد النور نورًا. ومن أي شيء يوقد هذا المصباح؟ يجيب الحق سبحانه وتعالى: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35].
أي: أن الشجرة المباركة ليست زيتونة فقط؛ ولكنها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي أن النور يخرج منها غير متأثر بمزاج حار أو بارد بل يخرج منها النور الصافي في مزاج معتدل، وقد أطلقت كلمة النور الصافي على آخر مرحلة من مراحل الترقي في الضوء. ومراحل الترقي بدأت من مشكاة ضيقة فيها مصباح غير عادي، والمصباح في زجاجة غير عادية بل تكثف الضوء، فتظهر وكأنها كوكب دري مضيء بذاته، والزيت الذي يضيء يخرج من زيتونة مباركة، بأعلى درجات النقاء. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35].
أي: أن كل شيء مضيء بذاته، ويضيف من قوة الضوء للنور، فالدائرة الصغيرة مضيئة؛ يزيد نورها زجاجة تكثف النور، والزجاجة ذاتها مضيئة فتعطي إضافة، والزيت مبارك ليست فيه أية شوائب فيعطي ضوءا ساطعا، وفوق ذلك كله تجد الزيت مضيئًا بذاته، دون أن تمسه النار، فكأنه نور على نور، فلا يصبح في هذه الدائرة الصغيرة أي نقطة مظلمة، كذلك تنوير الله لكونه المتسع فلا توجد فيه نقطة واحدة مظلمة، بل كله مغمور بنور الله، وإياك أن تظن أن هذا القول: {الله نُورُ} هو تشبيه لله، بل هو تشبيه لتنوير الله سبحانه وتعالى لكونه الذي يشمل السموات والأرض وما بينهما.
وهناك قصة مشهورة للشاعر أبي تمام حين كان يمتدح أحد الخلفاء فقال:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس

وهكذا جاء الشاعر بأولئك الذين اشتهروا بالإقدام والشجاعة كعمرو، وبالسماحة والكرم كحاتم، وبالحلم كأحنف بن قيس، وبالذكاء كإياس، وقال الشاعر ممتدحا الخليفة: إنك قد جمعت كل هذه الصفات، التي لم تجمع في واحد من خلق الله من قبل.
ولكن أحد المحيطين بالخليفة قال: كيف تمدح الأمير بصفات موجودة في رعاياه، والأمير فوق كل ما وصفت، فهو أشجع من عمرو، وأكرم من حاتم، وأحلم من أحنف، وأذكى من إياس.
وأعطى الله الشاعر بصيرة ليرد على ارتجال ويقول:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس

أي: أن الشاعر قال مثلا فقط وليس تحديدا.
والحق سبحانه وتعالى قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35].
وقال سبحانه وتعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
أي أن كل شيء مضيء بذاته ليضيف نورا على النور الموجودة، فكما أن الماديات تحتاج إلى نور يضيء لك الطريق، كذلك تحتاج المعنويات إلى نور يضيء لك البصيرة والسلوك، فخذ منهج الله تعالى لأنه النور الساطع الذي لا يمكن أن يضيء مثله ولا معه نور آخر، وإذا أردنا أن نقرب الصورة إلى الأذهان، فالله سبحانه وتعالى قال للقوم الذين يستمعون إلى دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
والذين يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الكلام أحياء، فكيف يقول لهم: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟.
نقول: إنه سبحانه وتعالى يريدنا أن نفرق بين حياة وحياة. فالحياة المادية المتمثلة في الحس والحركة والجري، هي الحياة الدنيا بأجلها المحدود، وإمكاناتها البسيطة، ولأنها حياة أغيار؛ لا تبقى فيها النعمة ولا تدوم لأحد، بل كل إنسان فيها إما أن تفارقه النعمة بالزوال، وإما أن يفارقها هو بالموت، وهذه ليست هي الحياة التي يريد الله من الإنسان أن يعمل لها وحدها. أو يسعى ليتمسك بها. فبسببها يفعل كل ما يستطيع لكي يأخذ منها حلالا أو حراما، ولكن الحياة التي يطالب الله سبحانه وتعالى عباده أن يعملوا لها هي الحياة المستقيمة الحركة على منهج الله وتقود إلى حياة آخرة فيها نعيم لا يفارقك ولا تفارقه، وفيها أبدية تبقى ولا تنتهي، وفيها نعم عظيمة تأتي بقدرة الله تعالى، وليس بقدرة البشر المحدودة.
إذن فقوله سبحانه وتعالى: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
معناه أن الحياة حياتان؛ حياة تحرك هذه المادة؛ فتتحرك وتجري وتروح وتجيء، وهي تنصلح بالمنهج الذي يقود إلى حياة أخرى فوق الحياة الدنيا.
إذن فالحياة الدنيا بما فيها من سعي وتعب وجهد وفناء ليست هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها الإنسان، بل على الإنسان أن يسعى إلى الحياة الأرقى. وسبحانه لا يريدنا أن نأخذ المرحلة الأولى من الحياة التي تحرك المادة فتتحرك وتجري، بل يريد لنا حياة تقودنا بالقيم، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد قال عن الحياة التي تحرك المادة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72].
فهذه حياة المرحلة الأولى التي لا يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذها كغاية، ولكنه يريدنا أن نأخذها وسيلة لنصل بها إلى الحياة الراقية في كل صورها الخالدة بكل معانيها؛ المنعَّمة في كل درجاتها. وكما سمَّى الحق سبحانه وتعالى الروح التي تنفخ في المادة فتعطيها المرحلة الأولى من الحياة روحًا، فإنه كذلك سمَّى المنهج الذي يعطينا المرحلة الثانية من الحياة روحا، حيث يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
هذه هي روح المنهج التي تعطينا المرحلة الثانية من الحياة. فإن أخذنا نور الهداية من الله سبحانه وتعالى فهو ينير لنا طريقنا في القيم والمعنويات، تماما كما تنير لنا شمس الله طريقنا في الحياة المادية. إذن فالحق لم يترككم للنور المادي ليحافظ على ماديتكم من أن تحطموا أو تتحطموا، وإنما أرسل إليكم نورا لتهتدوا به في مجال القيم.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
ولم يقل سبحانه: نور مع نور؛ لأن الإنسان لا يُكَلَّفُ من الله إلا بعد أن يصل إلى سن البلوغ، فالنور المادي يراه ويستفيد به قبل التكليف، ثم يأتي النور المعنوي فيتلقاه من الكتاب الذي أنزل على رسول الله عندما يبلغ سن التكليف فيتعرف على منهج الله.
{نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} [النور: 35].
فلا يحجب الحق سبحانه وتعالى نور الشمس عن أحد؛ لأنه نور لكل الخلق وكذلك أنزل سبحانه وتعالى نور الهداية ليختاره كل من التمس الطريق إلى الهداية، وهذا النور المعنوي يختلف عن النور المادي، فالحق لم يحرم- إذن- أحدا من النور المادي، وشاء أن يجعل النور المعنوي ضمن اختيارات الإنسان؛ إن شاء آمن واهتدى، وإن شاء ضل. وكل ذلك مجرد مثل من الأمثال التي يضربها الله تعالى للناس؛ قال عز وجل: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [النور: 35].
وجاءت الآية التي بعدها لتوضح لنا أين ينزل نور الله على عباده؛ فقال سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36].
وعندما تسمع جارا ومجرورا لابد أن تبحث عن المتعلق بهما، فما الذي في بيوت الله؟ إنك حين تبحث عن إجابة لن تجدها إلا في قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
فكأن المساجد وهي بيوت الله هي أماكن تلقى النور المعنوي من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النور الذي يعطينا ارتقاء الروح؛ لنصل إلى المرحلة الثانية من الحياة، تماما كما يحدث في الدنيا عندما تصاب آلة بعطب أو لا تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل، فالذي يصلحها ويصونها لتؤدي مهمتها المطلوبة منها هو المهندس الذي صنعها. والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، فلا أحد يستطيع أن يدعي مهما اجترأ على الله سبحانه وتعالى أنه خلق نفسه أو خلق الناس. وهذه دعوى لم يدَّعِهَا أحد قط.
وما دام الله عز وجل هو الذي خلق، إذن فهو سبحانه وتعالى الذي يضع المنهج الذي يصون حياة الناس ويجعلها تؤدي مهمتها كاملة. وما دام ربنا هو الذي يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فكيف يأتي إنسان من البشر ليفتئت على الحق سبحانه وتعالى ويقول: إنه وضع منهجا لحياة البشر، ويعلم الإنسان ما يفسد حياته لا ما يصلحها.
ونقول لكل من يفعل ذلك: لماذا تلجأ إلى من يصنع التليفزيون ليصلح لك الجهاز إن أصابه عطل، ولماذا لا تلجأ إلى صانعك الذي يصلح لك نفسك؟
إن تردد المسلم على بيت الله ليكون في حضرة ربه دائما هو إصلاح لما في النفس، فحين يقف المؤمن بين يدي الله ويصلي، يمتلئ بالرضا والتوازن النفسي؛ لأن الواحد منا لا يعرف ما الذي يصيب أي ملكة من ملكاته بالارتباك.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر يقوم إلى الصلاة، وما معنى حز به؟. أي: إن جاءه شيء أو أمر، وكان فوق طاقته. وفوق أسبابه، ولا يستطيع أن يفعل شيئا تجاهه، وتضيق عليه الأمور. فلماذا لا يتبع الواحد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأسوة حسنة، فإن قابل أمرا مكروها وشاقا يقول: إن لي ربا أذهب إلى بيته وأصلي فأقف في حضرته، فتحل أصعب وأعقد المشكلات. إذن فساعة يأتينا أمر شديد، لابد أن نتجه إلى الله عز وجل. وأفضل مكان نلتجئ فيه إلى الله تعالى هو بيته. فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلة ريح شديدة كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى تنجلي وبعض من الذين يحترفون الجدل واللجاجة يقول: ماذا سيفعل الله لي أو لذلك الذي يعاني من شيء فوق طاقته؟ لقد دخل المسجد وخرج كما هو؟ ونقول: هذا الظاهر من الأمر، ولكنك لا تعرف ماذا حدث في داخله، أنت تتحدث عن العالم المادي الذي فيه العلاجات المادية، ولكن الله سبحانه وتعالى يعالج داخل النفس دون أن تحس انت لن المساجد هي مطالع أنوار الله تعالى وهي التي يتنزل فيها النور على النور الذي يُصلح الحياة الدنيا ويرتقي بها؛ لأن أنوار الله تدخل القلوب فتجعلها تطمئن، وتدخل النفوس فتجعلها تحس بالرضا والأمن.